كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وبالجملة ليس الإنسان من أول ماينفخ فيه الروح الإنساني واجدا لشرائط التكليف بالاعتقاد الحق أو العمل الصالح، وإنما يستعد لذلك على سبيل التدريج حتى يستتم الشرائط فيكلف بالطلب والنظر فزمن حياته منقسم لا محالة إلى قسمين هما قبل التمييز والبلوغ وبعد التمييز والبلوغ وهو الزمان الذي يصلح لأن يشغله الاعتقاد كما أن ما يقابله يقابله فيه، وبين الزمانين الصالح لاشغاله بالاعتقاد وغير الصالح له لا محالة زمان متخلل يتوجه إليه فيه التكليف بالطلب والنظر، وهو الفصل الذي يبحث فيه عن واجب الاعتقاد بما تهدى إليه فطرته من طريق الاستدلال فيفرض نفسه أو العالم مثلا بلا صانع مرة ومع الصانع أخرى، ويفرض الصانع وحده مرة ومع الشريك أخرى وهكذا ثم ينظر ما ذا تؤيده الاثار المشهودة في العالم من كل فرض فرضه أو لا تؤيده؟ فيأخذ بذاك ويترك هذا.
فهو ما لم يتم له الاستدلال غير قاطع بشئ ولا بان على شيء وإنما هو مفترض ومقدر لما افترضه وقدره.
وعلى هذا فقول إبراهيم عليه السلام في الكوكب: {هذا ربى} وكذا قوله الاتى في القمر والشمس ليس من القطع والبناء اللذين يعدان من الشرك، وإنما هو افتراض أمر للنظر إلى الاثار التي تثبته وتؤيده، ومن الدليل على ذلك ما في الآيات من الظهور في أنه عليه السلام كان على حاله الترقب والانتظار، فهذا وجه.
ولكن الذي يتأيد بما حكاه الله عنه في سورة مريم في محاجته أباه: {يا أبت إنى قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا يا أبت إنى أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لارجمنك واهجرني مليا قال سلام عليك سأستغفر لك ربى إنه كان بى حفيا} [مريم: 47] أنه عليه السلام كان على علم بحقيقة الأمر وأن الذي يتولى تدبير أمره ويحفى عليه ويبالغ في إكرامه هو الله سبحاه دون غيره.
وعلى هذا فقوله: {هذا ربى} جار مجرى التسليم والمجاراة بعد نفسه كأحدهم ومجاراتهم وتسليم ما سلموه ثم بيان ما يظهر به فساد رأيهم وبطلان قولهم، وهذا الطريق من الاحتجاج أجلب لانصاف الخصم، وأمنع لثوران عصبيته وحميته، واصلح لاسماع الحجة.
قوله تعالى: {فلما أفل قال لا أحب الآفلين} الافول الغروب وفيه أبطال ربوبية الكوكب بعروض صفة الافول له فإن الكوكب الغارب ينقطع بغروبه ممن طلع عليه ولا يستقيم تدبير كونى مع الانقطاع.
على ان الربوبية والمربوبية بارتباط حقيقي بين الرب والمربوب وهو يؤدى إلى حب المربوب لربه لانجذابه التكويني إليه وتبعيته له، ولا معنى لحب ما يفنى ويتغير عن جماله الذي كان الحب لاجله، وما يشاهد من ان الإنسان يحب كثيرا الجمال المعجل والزينة الداثرة فإنما هو لاستغراقه فيه من غير ان يلتفت إلى فنائه وزواله فمن الواجب أن يكون الرب ثابت الوجود غير متغير الأحوال كهذه الزخارف المزوقه التي تحيا وتموت وتثبت وتزول وتطلع وتغرب وتظهر وتخفى وتشب وتشيب وتنضر وتشين، وهذا وجه برهانى وان كان ربما يتخيل انه بيان خطابي أو شعرى فافهم ذلك.
وعلى أي حال فهو عليه السلام أبطل ربوبية الكوكب بعروض الافول له إما بال تكنية عن البطلان بأنه لا يحبه لافوله لأن المربوبية والعبودية متقومة بالحب فليس يسع من لا يحب شيئا أن يعبده وقد ورد في المروى عن الصادق عليه السلام: (هل الدين إلا الحب؟) وقد بينا ذلك فيما تقدم.
وإما لكون الحجة متقومة بعدم الحب وإنما ذكر الافول ليوجه به عدم حبه له المنافى للربوبية لأن الربوبية والالوهية تلازمان المحبوبية فما لا يتعلق به الحب الغريزى الفطري لفقدانه الجمال الباقي الثابت لا يستحق الربوبية، وهذا الوجه هو الظاهر يتكئ عليه سياق الاحتجاج في الآية.
ففى الكلام أولا إشارة إلى التلازم بين الحب والعبودية أو المعبودية.
وثانيا أنه أخذ في إبطال ربوبية الكوكب وصفا مشتركا بينه وبين القمر والشمس ثم ساق الاحتجاج وكرر ما احتج به في الكوكب في القمر والشمس أيضا، وذلك إما لكونه عليه السلام لم يكن مسبوق الذهن من أمر القمر والشمس وأنهما يطلعان ويغربان كالكوكب كما تقدمت الإشارة إليه، وإما لكون القوم المخاطبين في كل من المراحل الثلاث غير الاخرين.
وثالثا أنه اختار للنفي وصف أولى العقل حيث قال: {لا أحب الآفلين} وكأنه للإشارة إلى أن غير أولى الشعور والعقل لا يستحق الربوبية من رأس كما يومى إليه في قوله المحكى: {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا} [مريم: 42] وقوله الاخر: {إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون} [الشعراء: 74] فسألهم أولا عن معبودهم كأنه لا يعلم من أمرها شيئا فأجابوه بما يشعر بأنها أجساد وهياكل غير عاقلة ولا شاعرة فسألهم ثانيا عن علمها وقدرتها وهو يعبر بلفظ أولى العقل للدلالة على أن المعبود يجب أن يكون على هذه الصفة صفه العقل.
قوله تعالى: {فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربى} إلى آخر الآية، البزوغ هو الطلوع تقدم الكلام في دلالة قوله: {فلما رأى} الخ، على اتصال القضية بما قبلها، وقوله: {هذا ربى} على سبيل الافتراض أو المجاراة والمماشاة والتسليم نظير ما تقدم في الآية السابقة.
وأما قوله بعد أفول القمر: {لئن لم يهدنى ربى لا كونن من القوم الضالين} فهو موضوع وضع الكناية فهو عليه السلام أبطل ربوبية الكوكب بما يعم كل غارب ولما غرب القمر ظهرعندئذ رأيه في أمر ربوبيته بما كان قد قاله قبل ذلك في الكوكب: {لا احب الآفلين} فقوله: {لئن لم يهدنى ربى} الخ، إشارة إلى ان الوضع الذي ذكره في القمر بقوله: {هذا ربى} كان ضلالا لو دام وأصر عليه كان أحد اولئك الضالين القائلين بربوبيته والوجه في كونه ضلالا ما قاله في الكوكب حيث عبر بوصف لا يختص به بل يصدق في مورده وكل مورد يشابهه.
وفي الكلام إشارة أولا إلى أنه كان هناك قوم قائلون بربوبية القمر كالكوكب كما أن قوله في الآية التالية بعد ذكر أمر الشمس: {يا قوم إنى برئ مما تشركون} لا يخلو عن الدلالة على مثله.
وثانيا: أنه عليه السلام كان وقتئذ في مسير الطلب راجيا للهداية الإلهية مترقبا لما يفيض ربه عليه من النظر الصحيح والرأى اليقيني سواء كان ذلك بحسب الحقيقة كما لو حملنا الكلام على الافتراض لتحصيل الاعتقاد، أو بحسب الظاهر كما لو حملناه على الوضع والتسليم لبيان الفساد، وقد تقدم الوجهان آنفا.
وثالثا: أنه عليه السلام كان على يقين بأن له ربا إليه تدبير هدايته وسائر اموره، وإنما كان يبحث واقعا أو ظاهرا ليعرفه: أهو الذي فطر السماوات والأرض بعينه أو بعض من خلقه، وإذ بان له ان الكوكب والقمر لا يصلحان الربوبية لا فولها توقع أن يهديه ربه إلى نفسه ويخلصه من ضلال الضالين.
قوله تعالى: {فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربى هذا أكبر} الكلام في دلالة اللفظ على الاتصال بما قبله لمكان قوله: {فلما} وكون قوله: {هذا ربى} مسوقا للافتراض أو التسليم كما تقدم في الآية السابقة.
وقد كان تكرر قوله: {هذا ربى} في القمر لما رآه بازغا بعد ما رأى الكوكب، ولذلك ضم قوله: {هذا أكبر} إلى قوله: {هذا ربى} في الشمس في المرة الثالثة ليكون بمنزلة الاعتذار للعود إلى فرض الربوبية لها مع تبين خطاء افتراضه مرة بعد مرة.
وقد تقدمت الإشارة إلى أن إشارتة إلى الشمس بلفظة {هذا} تشعر بأنه عليه السلام ما كان يعرف من الشمس ما يعرفه أحدناأنه جرم سماوي يطلع ويغرب بحسب ظاهر الحس في كل يوم وليلة، وإليها تستند النهار والليل والفصول الاربعة السنوية إلى غير ذلك من نعوتها.
فإن الاتيان في الإشارة بلفظ المذكر هو الذي يستريح إليه من لا يميز المشار إليه في نوعه كما تقول فيمن لاح لك شبحه وأنت لا تدرى أرجل أم امرأة: من هذا؟ ونظيره ما يقال في شبح لا يدرى أمن أولى العقل هو أولا: ما هذا؟ فلعله إنما كان ذلك من إبراهيم عليه السلام أول ما خرج من مختفى أخفى فيه إلى أبيه، وقومه ولم يكن عهد مشاهد الدنيا الخارجة والمجتمع البشرى فرأى جرما هو كوكب وجرما هو القمر وجرما هو الشمس، وكلما شاهد واحدا منها- ولم يكن يشاهد إلا جرما مضيئا لامعا- قال: هذا ربى، على سبيل عدم المعرفة بحاله معرفة تامة كما سمعت.
ويؤيده بعض التأييد قوله: {فلما أفل قال لا احب الآفلين} فإن فيه إشعارا بأنه عليه السلام مكث بانيا على كون الكوكب ربا حتى شاهد غروبه فحكم بأن الفرض باطل وأنه ليس برب، ولو كان عالما بأنه سيغرب أبطل ربوبيته مقارنا لفرض ربوبيته كما فعل ذلك في أمر الأصنام على ما يدل عليه قوله لأبيه: {أتتخذ أصناما آلهة إنى أراك وقومك في ضلال مبين} وقوله أيضا: {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا}.
وإن أمكن أن يقال: إنه أراد بتأخير قوله: {لا احب الآفلين} إلى أن يافل أن يحاجهم بما وقع عليه الحس كما أراد بما فعل بالاصنام حيث جعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم أن يريهم عجز الأصنام وكونها أجسادا ميتة لا تدفع عن أنفسها الضر والشر.
وللمفسرين في تذكير الإشارة في قوله: {هذا ربى هذا أكبر} مسالك من التوجية مختلفه: فمنهم من قال: تذكير الإشارة إنما هو بتأويل المشار إليه أو الجرم النير السماوي أي هذا المشار إليه أو هذا الجرم النير ربى وهو أكبر.
وفيه أنه لا ريب في صحة الاستعمال بهذا التأويل لكن الشأن في النكتة التي تصحح هذا التأويل، ولا يجوز ذلك من غير نكتة مسوغة، ولو جاز ذلك في اللغة من غير اعتماد على نكته لجاز تذكير كل مؤنث قياسي وسماعى في إرجاع الضمير والاشارة إليه بتأويل الشخص ونحوه وفي ذلك نسخ اللغة قطعا.
ومنهم من قال: إنه من قبيل إتباع المبتدء للخبر في تذكيره فإن الرب وأكبر مذكران فاتبع اسم الإشارة للخبر المذكر كما عكس في قوله تعالى: {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا} الآية فاتبع المذكر للمؤنث.
وفيه أنهم كانوا يرون من الالهة إناثا كما يثبتون ذكورا ويسمون الانثى من الالهة إلهة وربة وبنت الله وزوجة الرب فكان من الواجب أن يطلق على الشمس ربة لمكان التأنيث، وأن يقال: هذه ربتى أو إلهتى، فالكلام في تذكير الخبر في قوله: {هذا ربى} كالكلام في تذكير المبتدء ولا معنى حينئذ لحديث الاتباع.
وكذا قوله: {هذا أكبر} الخبر فيه من صيغ التفضيل وحكم صيغة التفضيل إذا وقعت خبرا أن يجاء بأفعل ويستوى فيه المذكر والمؤنث يقال زيد أفضل من عمر وليلى أجمل من سلمى، وما هذا شأنه لا نسلم أنه من صيغ المذكر الذي يجرى فيه الاتباع.
ومنهم من قال: إن تذكير الإشارة إنما هو لتعظيم الشمس حيث نسب إليها الربوبية صونا للاله عن وصمة التأنث.
وفيه: أنهم كانوا يعدون الانوثية من النواقص التي يجب أن ينزه عنها الإله وقد كان لاهل بابل أنفسهم آلهة أنثى كالالهة (نينو) إلهة الامهات الخالفة، والالهة (نين كاراشا) ابنة الإله (آنو) والالهة (مالكات) زوجة الإله (شاماش) والالهة (زاربانيت) إلهة الرضاع، والالهة (آنوناكى).
وكانت طائفة من مشركي العرب تعبد الملائكة وتعدهم بنات الله، وقد رووا في تفسير قوله تعالى: {إن يدعون من دونه إلا إناثا} [النساء: 117] أنهم كانوا يسمون آلهتهم إناثا، وكانوا يقولون: أنثى بنى فلان يعنون به الصنم الذي يعبدونه.
ومنهم من قال: إن قوم إبراهيم عليه السلام كانوا يعدون الشمس من الذكور وقد أثبتوا لها زوجة يسمونها (انونيت) فاحتفظ في الكلام على ظاهر عقيدتهم.
وفيه: أن اعتقادهم بكون الشمس ذكرا لا يصحح تبديل تأنيث لفظها تذكيرا.
على أن قوله عليه السلام للملك: {فأت بها من المغرب} [البقرة: 258] وهو يريد الشمس ينافى ذلك.
ومنهم من قال: إن إبراهيم عليه السلام كان يتكلم باللغة السريانية وهى لغة قومه، ولا يفرق فيها في الضمائر وأسماء الإشارة بالتذكير والتأنيث بل الجميع على صفة التذكير، وقد احتفظ القرآن الكريم في حكاية قوله على ما أتى به من التذكير.
وفيه: منع جواز ذلك فإنه أمر راجع إلى أحكام الالفاظ المختلفة باختلاف اللغات بل إنما يجوز ذلك فيما يرجع إلى المعنى الذي لا يؤثر في الخصوصية اللفظية، على أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام احتجاجات كثيرة وأدعية وافرة في القرآن وفيها موارد كثيرة اعتبر فيها التأنيث فما بال هذا المورد اختص من بينها بإلغاء جهة التأنيث؟ حتى أن قوله فيما يحاج به ملك بابل: {إذ قال إبراهيم ربى الذي يحيى ويميت قال أنا أحيى وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر} [البقرة: 258] ويتضمن ذكر الشمس وتأنيث الضمير العائد إليها.
ومن عجيب ما أورد على هذا الوجه ما ذكره بعض المفسرين وأصر عليه: أن إبراهيم عليه السلام وكذا إسماعيل وهاجر كانوا يتكلمون باللغة العربية القديمة، وأنها كانت لغة قومه، قال ما ملخصه: أنه ثبت عند علماء الاثار القديمة، أن عرب الجزيرة قد استعمروا منذ فجر التاريخ بلاد الكلدان ومصر وغلبت لغتهم فيهما، وصرح بعضهم بأن الملك حموربى الذي كان معاصرا لابراهيم عليه السلام عربي وحموربى هذا ملك البر والسلام ووصف في العهد العتيق بأنه كاهن الله العلى، وذكر فيه أنه بارك إبراهيم وأن إبراهيم أعطاه العشرة من كل شئ، قال: ومن المعروف في كتب الحديث والتاريخ العربي أن إبراهيم أسكن إسماعيل ابنه عليهما السلام مع أمه هاجر المصرية في الواد الذي بنيت فيه مكة بعد ذلك، وأن الله سخر لهما جماعة من جرهم سكنوا معهما هنالك، وأن إبراهيم عليه السلام كان يزورهما، وأنه هو وولده إسماعيل بنيا بيت الله الحرام ونشرا دين الإسلام في البلاد العربية، وفي الحديث: أن إبراهيم عليه السلام جاء مكة ليزور ابنه وقد خرج إلى الصيد فكلم زوجته وكانت جرهمية فلم يرتض أمرها ثم جاءها بعد مدة ليزوره فلم يجده فكلم زوجته الاخرى فدعته إلى النزول وغسل رأسه فارتضى أمرها ودعا لها، وكل ذلك يدل على أنه كان يتكلم بالعربية، هذا ملخص ما ذكره.